لا قنوط فى الإسلام

منذ قرون سرت روح القنوط  فى أمتنا الغالية حتى صار الخنوع و الاستكانة رضا بالقضاء و القدر، والتواكل توكلا على الله ، ولعمر الله ما من قنوط لمن عرف الله حق المعرفة . لقد نعى ربنا على اليائسين و نعتهم فى كتابه بأقسى النعوت (قال ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون) و دعا سبحانه عباده إلى نبذ القنوط و اليأس، و الطمع فى واسع رحمته( قل يا عبادى الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم)قال ابن مسعود : هذه أرجى آية فى كتاب الله.
و فى السنة المطهرة دعوة لنبذ العجز و القنوط يقول صلى الله عليه و سلم( المؤمن القوى خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف ،و فى كل خير احرص على ما ينفعك و استعن بالله ولا تعجز)رواه مسلم . وهذا حديث  آخر يبعث الأمل فى القلوب حتى فى أحلك الساعات ( إذا قامت الساعة و فى يد أحدكم فسيلة فإن استطاع ألا يقوم حتى يغرسها فليغرسها)البخارى فى الأدب المفرد.و هكذا كان دائما قلب نبينا الكريم موصولا بالله جل و علا فلا يكاد اليأس يقربه ،و لولا ذلك ما تم أمر هذا الدين و ما وصل إلينا، بل نجده دوما يثبت أصحابه على الحق فعن خباب بن الأرت قال : قلنا يا رسول الله : ألا تستنصر لنا ألا تدعوالله  لنا فقال :( إن من كان قبلكم كان أحدهم يوضع المنشار على مفرق رأسه فيخلص إلى قدميه لا يصرفه ذلك عن دينه و يمشط بأمشاط الحديد ما بين لحمه و عظمه لا يصرفه ذلك عن دينه) البخارى.
حال الأمة اليوم و ماضى أسلافهم المجيد:
كما ذكرت فإن عقيدة الجبر و هى  التواكل و الرضا بالظلم، بحجة أنها من قضاء الله و قدره قد سرت فى روح الأمة، منذ قرون حتى رأيناهم فى بعض الأزمنة مستسلمين للمستعمر الغاشم، بل ربما استعان الاستعمار  بالمنتسبين إلى التصوف- دون فهم لحقيقته- فى التوطين لجيوشهم، و هذا ما حدث فى الجزائر مع أرباب الطريقة التيجانية ، ففى عام 1870 استطاعت امرأة فرنسية تدعى أوريلى بيكار أن تخترق الزاوية التيجانية و أن تتزوج من شيخها أحمد التيجانى ،و لما مات تزوجت من أخيه على فأصبحت هذه المرأة مقدسة عند التيجانيين، و أطلقوا عليها لقب( زوجة السيدين) و كانوا يتيمنون بالتراب الذى تطؤه، وقد أدارت هذه السيدة الزاوية التيجانية كما تحب فرنسا، و كسبت لفرنسا مزارع و مراعى شاسعة ،فلا عجب أن أنعمت عليها فرنسا بوسام الشرف ، و لا عجب أن ساعد التيجانيون الجيوش الفرنسية حتى إن الشيخ محمد الكبير خليفة الشيخ أحمد التيجانى ،مؤسس الطريقة قال فى خطابه أمام رئيس البعثة العسكرية الفرنسية فى مدينة ( عين ماضى) ،المركز الرئيس للتيجانية:إن من الواجب علينا إعانة حبيبة قلوبنا فرنسا ماديا و معنويا و لهذا فإننى أقول لا على سبيل المن و الافتخار و لكن على سبيل الاحتساب و الشرف و القيام بالواجب إن أجدادى قد أحسنوا صنعا فى انضمامهم إلى فرنسا قبل أن تصل إلى بلادنا و قبل أن تحتل جيوشها الكرام ديارنا.
و على النقيض لقد ورث العزم الصادق رجال من أمة محمد، تعلموا أن كل دقيقة من عمرهم هى جوهرة نفيسة، لابد من استغلالها فيما يفيد فى أمور الدين والدنيا و إليك الأمثلة :
هذا التابعى الجليل أبو مسلم الخولانى يقول : أيظن أصحاب محمد أن يستأثروا به دوننا ؟ كلا و الله لنزاحمنهم عليه زحاما حتى يعلموا أنهم قد خلفوا وراءهم رجالا .أى لنجتهدن فى خدمة هذا الدين الذى أكرمنا الله به كما اجتهدوا رضوان الله عليهم جميعا.
و هذا الإمام النووى يموت فى الخامسة و الأربعين دون أن يتزوج (631-676) و قد ترك من المؤلفات ما لو قسم على أيام حياته لكان نصيب كل يوم أربع كراريس ،فكيف تم له ذلك؟ نجده يقول عن نفسه فى بداية طلبه للعلم : و بقيت سنتين لا أضع جنبى بالأرض ، أى ينام على كتبه كلما أدركه التعب رحمه الله.و هذا ابن النفيس- شيخ الطب فى زمانه -يقول عنه التاج السبكى: و صنف كتابا سماه الشامل لو تم لكان ثلاثمائة مجلد ، تم منه ثمانون مجلدا و كان فيما يذكر على تصانيفه من ذهنه ، لقد كان رحمه إذا أراد التصنيف توضع له الأقلام مبرية، و يدير وجهه إلى الحائط و يأخذ فى التصنيف من خاطره ،فيكتب كالسيل المنحدر، فإذا كل القلم رمى به و تناول غيره لئلا يضيع الزمن فى برى الأقلام . لله درهم من رجال حملوا على عاتقهم أمانة العلم، و عرفوا قيمة الدقائق أما نحن فيصح فينا قول القائل :
و الوقت أنفس ما عنيت بحفظه ** و أراه أيسر ما عليك يضيع
 المسلم الحق نفسه مفعمة بالأمل دوما راضية بقضاء الله، فلا يتسرب إليها اليأس مطلقا ،و كيف تعرف اليأس و هى تصبر الصبر الجميل الذى لا جزع فيه، و لا شكوى معه عند نزول البلاء ،و تشكر نعمة ربها عند قدوم النعمة ، فيعيش المؤمن الحياة الطيبة فى الدنيا و الآخرة يقول سيدنا عمر: لو كان الصبر و الشكر بعيران لا أبالى أيهما ركبت.
المؤمن الذى عرف ربه حق المعرفة يتبع إيمانه القلبى العمل الصالح للدين و للدنيا ،حتى يبلغ الغاية فيهما، جاعلا الدنيا فى يديه فلا تملك عليه جوانب قلبه،  و هذه هى حقيقة الزهد التى فهمها سلفنا رضوان الله عليهم ،فأحكموا أمور الدين و ملكوا أقطار الأرض قال الإمام مالك : الزهد طلب التكسب و قصر الأمل .
بهذه الروح المفعمة انطلق علماؤنا يتقنون فنون العلم، و يمتلكون زمام كل فن، ففى الوقت الذىرسم فيه ابن سينا  تشريح العين ،و استخدم البنج فى الجراحة ،و هو أول من قال بوجود أمراض جسمية ناشئة عن الحالة النفسية psychosomatic diseases
إلى آخر ما اكتشفته تلك العقلية الجبارة ،فى ذلك الوقت كانت أوربا تعيش فى ظلمات العصور الوسطىن و كان المريض يعلق فى شجرة و ينهال المعالج عليه ضربا ليخرج منه الأرواح الشريرة كما كانوا يظنون.
و لا تعجب إذا قلت لك إن ملك إنجلترا (جورج) أرسل خطابا إلى هشام ملك الأندلس -إبان مجدها- يقول له إننى أرسل بعثة من رجال البلاط و الأشراف، و بينهم ابنة أخى الأميرة (دوبانت) ليتعلموا العلم فى مدارسكم، و يعودوا إلينا فينشروا النور فى بلادنا التى عمها الظلام من كل الجوانب.
ما أحوج المسلمين اليومك إلى أن يفيقوا من سباتهم العميق و أن يتأسوا بأسلافهم نابذين اليأس و القنوط، فالمستقبل لا شك لدى لهذا الدين العظيم ، و لأمة سيد المرسلين ،شريطة أن يربطوا الدنيا بالدين  بأوثق العرىو أمتن الأسباب .إنى على يقين أن المارد الذى ظل نائما حتما سيستيقظ بإذن الله ليخرج،  من أصلاب هذه الأمة المباركة نبتا طيبا يعمر الأرض، و ينبغون فى شتى المجالات بإذن الله تعالى إنه ولى ذلك و القادر عليه.

و أختم كلامى بتلك الكلمات المحببة إلى قلبى للمصلح العظيم عبد الرحمن الكواكبى:
ما بال الزمان يضن علينا برجال ينبهون الناس، و يرفعون الالتباس، و يفكرون بحزم و يعملون بعزم، و لا ينفكون حتى ينالوا ما يقصدون ،و الله المستعان.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

قصيده شباب الاسلام

إني تذكرت والذكرى مؤرقةٌ ..للشاعر الكبير : محمود غنيم

التدخين رحلة إلى الهلاك