فتوى الإمام الأكبر، شيخ الجامع الأزهر، العلامة محمود شلتوت رحمه الله، حول الصلاة في المساجد ذات القبور:
شُرِعَتْ الصَّلاةُ في الإسلام لتكونَ رباطًا بين العبد وربِّه، يقضي فيها بين يديه خاشعًا ضارعًا يناجيه، مستشعرًا عظمتَه، مستحضرًا جلالَه، ملتمسًا عفوَه ورضاه؛ فتسمو نفسُه، وتزكو روحُه، وترتفع همته عن ذل العبودية والخضوع لغير مولاه {إيَّاكَ نَعْبُدُ وإيَّاكَ نَسْتَعِيُن}
وكان من لوازم ذلك الموقف، والمحافظة فيه على قلب المصلى، أن يخلص قلبه في الاتجاه إليه سبحانه، وأن يُحال بينه وبين مشاهدَ من شأنها أن تبعث في نفسه شيئًا من تعظيم غير الله، فيُصرَف عن تعظيمه إلى تعظيم غيره، أو إلى إشراك غيره معه في التعظيم.
ولذلك كان من أحكام الإسلام فيما يختص بأماكن العبادة تطهيرُها من هذه المشاهد. {وَعَهِدْنَا إلى إبْرَاهِيمَ وإسْمَاعِيلَ أنْ طَهِّرَا بيتيَ للطَّائِفينَ والعَاكِفِينَ والرُّكَّعِ السُّجُود} {وإِذْ بَوَّأْنَا لإبْرَاهِيمَ مَكَانَ البَيْتِ أنْ لا تُشْرِكَ بي شَيئًا وطَهِّرْ بَيْتِيَ للطَّائِفينَ والقَائِمِينَ والرُّكَّعِ السُّجُود} {إنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ الله مَنْ آمَنَ بالله واليوم الآخر وأقام الصَّلاة وآتى الزَّكاة ولم يَخْشَ إلا الله} {وأنَّ المساجِدَ لله فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَدًا}.
وما زلَّ العقلُ الإنسانيُّ وخرج عن فطرة التوحيد الخالص فعبد غيرَ الله، أو أشرك معه غيره في العبادة والتقديس؛ إلا عن طريق هذه المشاهد التي اعتقد أنَّ لأربابها والثَّاوِينَ فيها صلةً خاصةً بالله، بها يُقرَّبون إليه، وبها يشفعون عنده؛ فعظَّمها واتجه إليها، واستغاث بها، وأخيرًا طاف وتعلَّق، وفعل بين يديها كل ما يفعله أمام الله من عبادة وتقدیس.
والإسلام من قواعده الإصلاحية أن يسد بين أهله وذرائع الفساد، وتطبيقًا لهذه القاعدة صحَّ عن النَّبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «إنَّ مَنْ كان قَبْلَكم كانوا يَتَّخِذُونَ قُبُورَ أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبورَ مساجدَ، إنِّى أنهاكم عن ذلك»
نهى الرسول، وشدد في النهي عن اتخاذ قبور الأنبياء والصالحين مساجد، وذلك يصدق بالصلاة إليها، والصلاة فيها، وأشار الرسول إلى أنَّ ذلك كان سببًا في انحراف الأمم السابقة عن إخلاص العبادة لله، وقد قال العلماء : إنه لما كثُر المسلمون، وفكَّر أصحابُ الرسول في توسيع مسجده، وامتدت الزيادة إلى أن دخلت فيه بيوت أمهات المؤمنين، وفيها حجرة عائشة، مَدْفن الرسول -صلى الله عليه وسلم- وصاحبَيْه أبي بكرٍ وعمرَ، فبنوا على القبر حيطانًا مرتفعة تدور حوله مخافة أن تظهر القبور في المسجد فيصلي إليها الناس، ويقعوا في الفتنة والمحظور.
وإذا كان الافتتان بالأنبياء والصالحين -كما نراه ونعلمه- شأنَ كثيرٍ من النَّاس في كل زمان ومكان؛ فإنه يجب -محافظة على عقيدة المسلم- إخفاءُ الأضرحةِ من المساجد، وألا تُتَّخذَ لها أبوابٌ ونوافذُ فيها، وبخاصةٍ إذا كانت في جهة القبلة. يجب أن تُفصلَ عنها فصلًا تامًّا بحيث لا تقع أبصار المصلين عليها، ولا يتمكنون من استقبالها و هُمْ بين يدي الله، ومن باب أولى؛ يجب منعُ الصَّلاة في نفس الضريح، وإزالة المحاريب من الأضرحة.
وإنَّ ما نراه في المساجد التي فيها الأضرحة، ونراه في نفس الأضرحة، لمِمَّا يبعث في نفوس المؤمنين سرعةَ العمل في ذلك، وقايةً لعقائد المسلمين وعباداتهم من مظاهرَ لا تتفق وواجب الإخلاص في العقيدة والتوحيد، ومن هنا؛ رأى العلماءُ أنَّ الصلاةَ إلى القبر
-أيًّا كان- محرَّمةٌ، ونهى عنها، واستظهر بعضُهم -بحكم النَّهي- بطلانَها؛ فليتنبه المسلمون إلى ذلك، وليُسرع أولياءُ الأمر في البلاد الإسلامية إلى إخلاص المساجد لله كما قال الله:
{وأنَّ المساجدَ لله فَلا تَدْعُوا معَ اللهِ أحدًا}
المصدر: ((الفتاوى))، الإمام الأكبر الشيخ محمود شلتوت، (ص/٨٨-٩٠)، طبعة دار الشروق.
تعليقات