الشباب:فساد الثقافة أم ثقافة الفساد؟

"ما بال الزمان يضن علينا برجال ، ينبهون الناس ، ويرفعون الالتباس ، و يفكرون بحزم ، و يعملون بعزم ، ولا ينفكون حتى ينالوا ما يقصدون" ،هذه العبارة البليغة للمصلح العظيم عبد الرحمن الكواكبى-رحمه الله تعالى- يطيب لى كثيرا أن أرددها        لا شك أن مرحلة الشباب من أخطر المراحل فى حياة الإنسان،ففيها تتشكل هويته و تتضح ميوله واتجاهاته إما موفقا إلى الخير أو ضائعا فى مزالق الشر(أو من كان ميتا فأحييناه و جعلنا له نورا يمشى به فى الناس كمن مثله فى الظلمات ليس بخارج منها ) ،هذه المرحلة الحساسة تفور فيها الغرائز و الشهوات، كما أن غريزة التدين تتحرك أيضا فى مرحلة البلوغ -كما ذكر علماء النفس- بين العاشرة والخامسة والعشرين، فيقول أحد علماء النفس: إذا لم يحدث التحول الدينى قبل العشرين فقلما يحدث بعد ذلك، و فى دراسة أخرى على أكثر من 4 آلاف حالة وجد العلماء أن التدين قد حدث عند الشباب فى سن السادسة عشرة، فأولى ما توجه إليه الجهود فى المرحلة القادمة أن تركز لصالح الاهتمام بالشباب والتعايش مع مشكلاتهم و التى هى قنابل موقوتة تنفجر فى أى لحظة.  و إليك أيها القارىء الكريم أمثلة للفساد الشعبى الذى هو بحاجة إلى ثورة فى نفس كل عربى حر كما نثور على الحكام الطواغيت.خذ مثلا مشكلة العنوسة والتى-حسب وجهة نظرى-  هى من أولى أبواب الإنفاق التى ينبغى أن توجه إلى حلها أموال القادرين لا إلى قنوات الفاحشة و العرى، فقد أعلن الجهاز المركزى للتعبئة والإحصاء أن عدد المصريين الذين بلغوا سن الزواج و لم يتزوجوا قد تخطى 13 مليون شاب و فتاة ، والذين بلغوا الثالثة و الثلاثين منهم 8 مليون و 963 ألفا منهم نحو 4 ملايين فتاة ، وذكرت إحصائية للمركز المصرى لحقوق المرأة أن أكثر من 91%من عينة من المصريات ذكرن أنهن تعرضن للتحرش الجنسى ،و ذكر نفس الأمرأكثر من96% من الأجنبيات فى مصر ، و فى السعودية ذكرت دراسة أن 25% من الأطفال السعوديين يتعرضون للتحرش الجنسى . أما عن التدخين فقد ذكرت وكالة أسوشيتد برس (يونيه2008) أن مصر ضمن أكثر 15 دولة من حيث عدد المدخنين فى العالم , وأكدت أن حوالى 60% من الرجال البالغين يستخدمون التبغ بينما عدد البالغين المدخنين فى أمريكا حوالى 24% فقط،و ذكر الجهاز المركزى للتعبئة والإحصاء(2009) أن عدد المدخنين فى مصر 13 مليون مدخن يستهلكون 4 مليارات علبة سجائر سنويا مما يكبد الإنفاق القومى نحو 8 مليارات جنيه سنويا أى حوالى 22% من دخل المدخن شهريا ، كما ذكر أن نسبة المتغيبين عن العمل بسبب التدخين تزيد بنسبة 50% عن غير المدخنين. أما عن غياب الوعى فحدث ولا حرج فقد كشفت إحصائية للمركز المصرى للبحوث الجنائيةو نشرتها (صوت الأزهر) أن العرب ينفقون سنويا على السحر سنويا حوالى 5 مليارات دولار، و أن هناك دجال لكل ألف عربى،ومن صور فسادنا أيضا ما ذكرته لجنة التعليم بمجلس الشعب (2010) أن تكلفة الإنفاق على الدروس الخصوصية يتراوح بين 7 و 12 مليار جنيه سنويا نتيجة لانعدام الضمير و هجر الطلاب للمدارس الرسمية لأن المعلم لا يقوم بواجبه فيها  ولتكدس الطلاب فى الفصول ،،الخ،أما عن تفكك الأسر و غياب الروابط الاجتماعية فحدث ولا حرج فتشير الإحصاءات إلى وجود حالة طلاق فى مصر كل أربع دقائق (2004)و أكد المركز القومى للبحوث أن نسبة الطلاق فى السنة الأولىمن الزواج فى مصر بلغت 40%(عام2000)فى حين كانت7% عام 1970 و25% عام 1980. الصورة تبدو مرعبة  فى غاية القتامة   ،                                                    تصم السميع  و تعمى البصير** و يسأل من مثلها العافية              لكن لا والذى فلق الحبة و برأ النسمة لا  يأس من رحمة الله أبدا  و الله تعالى قد أقر أعيننا بأكثر من ثمانمائة وخمسين شهيدا و أكثر من ستة آلاف جريح فى ثورتنا المباركة جلهم من الشباب، يقول الرسول الحكيم صلى الله عليه و سلم: ( أوصيكم بالشباب خيرا فإنهم أرق أفئدة، لقد بعثنى الله بالحنيفية السمحة فحالفنى الشباب وخالفنى الشيوخ )،يلتقى هؤلاء الأبرار ومن ظلموهم قيقتص لهم فى محكمة ربانية لا تعرف المحاباة و لا المجاملة، حبس الرشيد الشاعر أبا العتاهية فأرسل له من داخل السجن أبياتا معبرة :   
أما و الله إن الظلم شؤم*  وما زال المسىء هو الظلوم
        إلى الديان يوم الحشر نمضى *  و عند الله تجتمع الخصوم                         فبكى الرشيد لما قرأها و أمر بإخراجه،،كانت لا تزال فى قلوبهم بقية من رحمة و تأثر بالموعظة فور سماعها ،على النقيض مما رأينا من جلادى الأنظمة القاهرة    
أنست مظالمهم مظالم من خلوا* حتى ترحمنا على نيرون                            
               لقد أولى الإسلام عناية فائقة للشباب فعلي أكتافهم الفتية تؤسس أمجاد الأمة ، لقد كان صغار الشباب من الصحابة يتبارون أمام رسول الله حتى يسمح لهم بالقتال فى المعارك معه فكان يقبل منهم من بلغ 15 عاما ، وقد ولى أسامة بن زيد قيادة جيش قيه كبار الصحابة و لم يبلغ يومئذ  السابعة عشرة حتى تكلم الناس فى إمارته فتحدث النبى صلى الله عليه وسلم و أخبرهم أنه خليق بالإمارة كما كان أبوه خليقا بها ،و هذا محمد بن القاسم يفتح السند على شدة بأس أهلها و هو لا يزال شابا صغيرا فقد قاد جيوش المسلمين و لم يجاوز الثامنةعشرة، و ولى سيدنا عثمان عبد الله بن عامر البصرة و لم يبلغ من العمر خمسا و عشرين فصمد صمود الجبال الشم وغزا البلاد التى من حوله بدءا من حدود العراق حتى شمال أفغانستان ووصل إلى حدود تركستان الشرقية التى تسمى اليوم (سينجيانج)و التى تحتلها الصين و تضطهد أهلها المسلمين ويوجد بها نحو 1500 من قبور الصحابة.
شباب ذللوا سبل المعالى    ***   وما عرفوا سوى الإسلام دينا
إذا شهدوا الوغى كانوا كماة ***   يدكون المعاقل والحصونا
و إن جن المساء فلا تراهم***من الإشفاق إلا ساجدينا 
شباب لم تحطمه الليالى*** و لم يسلم إلى الخصم العرينا
و ما عرفوا الأغانى مائعات***و لكن العلا صيغت لحونا
و لم يتشدقوا بقشور علم*** و لم يتقلبوا فى الملحدينا
و لم يتبجحوا فى  كل أمر  خطير  كى يقال  مثقفونا
كذلك أخرج الإسلام قومى ***  شبابا مخلصا حرا أمينا
و علمه الكرامة كيف تبنى***  فيأبى أن يذل و أن يهونا
إن الرفاهية و التنعم لاتقيم أمة ....تولى أحد ملوك الأندلس الحكم بجيش رهيب شديد البأس أحكم به سيطرته على بلاد الأندلس فلما توفى تولى ابنه وكان الابن مسرفا مترفا ،كان له فى بيته اثنتان و سبعون جارية و أربع نساء يستمع الغناء و اللهو صباح مساء ،فلما اجتاح ملك الفرنجة الأندلس قيد الشاب وقادوه إلى السجن فأتت أمه تزوره فبكى عند باب السجن فقالت له :ابك مثل النساء ملكا مضاعا لم تحافظ عليه مثل الرجال.
هذه صورة لبعض شباب هذه الأيام ،والبعض منهم ينزوى بعيدا عن دنيا الناس بدعوى الزهد فى المناصب و فى زخارف الدنيا وهو من تزيين الشيطان لهم،خرج رجال من الكوفة و نزلوا قريبا يتعبدون فبلغ ذلك عبدالله بن مسعود فأتاهم ففرحوا بمجيئه إليهم فقال لهم : ما حملكم على ما صنعتم ؟ قالوا أحببنا أن نخرج من غمار
الناس نتعبد فقال لهم : لو أن الناس فعلوا مثل ما فعلتم فمن كان يقاتل اللعدو ؟ و ما أنا ببارح حتى ترجعوا.
هذه دعوة لكل أبناء الأمة على اختلاف توجهاتهم وميولهم للمشاركة فى إعادة تشييد مجد هذه الأمة الضائع ، قد كنا نحجم عن المشاركة فى العمل السياسى لأنا كنا نعلم أنها مسرحية البطل فيها و المؤلف و المخرج و الممول هو الحزب الوطنى و الجمهور أكثر من 80 مليونا من البسطاء الذين استخفهم فرعون فأطاعوه .
فى هذه الأوقات العصيبة فتن ترى الحليم فيها حيرانا ، يحار الشباب فيمن يلتف حوله و بمن يتأسى ،بأهل العلمانية ودعاتها و ما هى حقيقة العلمانية التى ينشدونها ،أم بدعاة الليبرالية ( التحرر) و ماذا يصلح لبلادنا المسكينة منها ،و بأى المذاهب فى دينه يتمسك بالسلفية أم دعاة الصوفية؟و هذه الاتجاهات هى ما سأحاول إلقاء الضوء عليها فى لقاءات تالية إن يسر المولى و أعان.
مشكلتنا الكبرى فى نظرى أننا أمة (اقرأ) ولا ندرى ما القراءة،
أكدت إحصائية عالمية أن معدل قراءة الفرد العربى ربع صفحة فى العام بينما متوسط الأمريكى 11كتابا و البريطانى 8 كتب و تقدر الإحصائية أن متوسط قراءة العربى فى السنة لا يتجاوز نصف ساعة، إنها بحق أزمة أمية بكل جوانب الأمية فكيف تنهض أمة تنفق فى المتوسط 26% من ميزانياتها على التسليح و قد تصل فى بعض دول الخليج إلى 50 %  بينما الإنفاق على البحث العلمى لا يتجاوز 1%.إن الأقسام العلمية فى الثانوية العامة تشكو قلة الراغبين فيها ،أما فى الكليات الجامعية فهى تبكى وتشكو إلى ربها من ندرة بل انقراض محبيها ، بعد أن كانت مصر ولادة تصدر عباقرة العلوم لا إلى الأمة العربية فقط بل إلى العالم كله أمثال الباز  وأحمد زويل و مشرفة و سميرة موسى و غيرهم المئات.
هذه الأمة المسكينة التى تربت على ثقافة الفساد لعقود حتى تأصل فينا ، لم نعد مثلا نعرف قيمة الوقت الذى هو أنفس سلعة و أغلى بضاعة،
و الوقت أنفس ما عنيت بحفظه*** و أراه أيسر ما عليك يضيع
 إن سلفنا الصالح إنما بلغوا الغاية فى كل الفنون بصبرهم و اجتهادهم و حرصهم على أوقاتهم ،رحل جابر بن عبد الله إلى عبد الله بن أنيس مسيرة شهر ليسمع منه حديثا واحدا ،و هذا مكحول يقول : أعتقت بمصر فلم أدع بها علما إلا حويته فيما أرى ثم أتيت العراق ثم أتيت المدينة فلم أدع بها علما إلا حويت عليه فيما أرى ثم أتيت الشام فغربلتها ،و حكى عن ثعلب (من أئمة اللغة) أنه كان لا يفارقه كتاب يدرسه فإذا دعاه رجل إلى دعوة شرط عليه أن يوسع له مقدار مسورة (المتكأ من الجلد) يضع فيها كتابا و يقرأ، وكان سبب وفاته أنه خرج من الجامع بعد العصر و كان قد أصابه صمم لايسمع إلا بعد تعب و كان فى يده كتاب  ينظر فيه فى طريقه فصدمته فرس فألقته فى هوة فأخرج منها و هو كالمختلط فحمل إلى منزله على تلك الحال و هو يتأوه من رأسه فمات من ثانى يوم.
 سبحان من فاوت بين الهمم فمنها ما يبلغ القمم ومنها الرمم  التى  لا ينفك أصحابها مقيمين عند السفوح
ومن يتهيب صعود الجبال يعش   ***    أبد الدهر بين الحفر
اللهم ردنا إليك ردا جميلا، و أرنا بكرمك يوم عز الإسلام بأعيننا


 

إ

تعليقات

‏قال غير معرف…
الاستاذ الجميل/ مصطفي صلاح ثابت
نشكرك علي هذا الموضوع الرائع
وهذا الجهد الطيب جعله الله في ميزان حسناتك ورزقنا واياك الفردوس الاعلي
لك كل التحية والتقدير
جزاك الله خيرا و شاكر لمرورك الكريم

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

قصيده شباب الاسلام

إني تذكرت والذكرى مؤرقةٌ ..للشاعر الكبير : محمود غنيم

التدخين رحلة إلى الهلاك