أخلاق المصريين (3).. حقيقة التدين

الحمد لله وحده ..و الصلاة و السلام على من لا نبى بعده،،،
ما هى حقيقة التدين؟
كان العرب أمة  بدائية ، صبغتهم البيئة بصبغتها القاسية، فلا عجب أن رأينا كثيرا منهم قساة القلوب، تماما كالجبال التى تكتنفهم ،و رأيناهم ظلمة يعدون ظلم الآخرين مفخرة يشدون بها فى شعر الفخر و العظمة ، يشيع فيهم الخمر و الميسر و الوثنية .. الخ ما تجسده الجاهلية فى أقبح صورها، ثم جاءهم-  من بينهم- من بعثه ربه رحمة للعالمين، فنزلت رسالته كالغيث على أرض أنهكها طول التعطش إلى الخير ، كانت تلك  القلوب على الفطرة تنتظر من يفتح مغاليقها فسرعان ما رأيناهؤلاء الرجال قد لانت منهم القلوب ، و تفجرت بين جوانبهم حلاوة الإيمان فأثمرت خشية حقة  لله جل و علا ، وورعا صادقا و استعدادا لبذل النفس و النفيس و الأهل و الولد فى سبيل هذا الدين الذى أكرمهم الله به.
هذا رستم القائد الفارسى لما رأى المسلمين يجتمعون للصلاة يقول : أكل عمر كبدى ، يعلم الكلاب الآداب.
وحتى رأينا من صور التدين الصادق ما هو مفخرة للبشرية كلها...صدقا فى الحديث و أمانة تامة فى التعامل، و كرما و صلة للأرحام ،و بذلا و إيثارا لإخوانهم على أنفسهم و هذا هو التدين الحقيقى الذى أراه غاب عن أذهان كثير منا فحصروه فى أداء العبادات دونما خشية حقيقية لله، وبلا انعكاس لهذا التدين على سلوك المسلمين.
هذا الدين الذى رسخ فى قلوبهم جعلهم يوقنون بما وعدوا به من الخلود فى جنات النعيم فنراهم يسارعون ببذل أنفسهم رخيصة فى سبيل الله ..أراد الصحابى الجليل عمرو بن الجموح الخروج إلى أحد- و كان أعرج-فمنعه أبناؤه ،وقالوا : قد عذرك الله فجاء إلى النبى صلى الله عليه و سلم و قال : إن بنى يريدون حبسى عن الخروج معك و إنى لأرجو أن أطأ بعرجتى فى الجنة فقال: ( أما أنت فقد عذرك الله ) ثم قال لبنيه ( لا عليكم أن لا تمنعوه لعل الله يرزقه الشهادة)فخلوا سبيله ، قالت امرأته كأنى أنظر إليه قد أخذ درقته و هو يقول : اللهم لا تردنى إلى خربى (منازل قومه) ، قال أبو طلحة : فنظرت إليه حين انكشف المسلمون ثم ثابوا و هو فى الرعيل الأول، لكأنى أنظر إلى ظلع فى رجله وهو يقول : أنا و الله مشتاق إلى الجنة ، ثم أنظر إلى ابنه خلاد يعدو فى أثره حتى قتلا جميعا ،و قد ورد أنه دفن عمرو بن الجموح و عبد الله بن عمر و أبو جابر فى قبر واحد فخرب السيل قبورهم فحفروا عنهم بعد ست و أربعين سنة فوجدوا  لم يتغيروا كأنهم  ماتوا بالأمس.
نعيش فى زمن  اندثر فيه الوعى بكل نواحيه ..أمية دينية .. غيبوبة عن الثقافة فى شتى مناحيها.. لا أستغرب مع هذا أن ينحصر فهمنا لحقيقة التدين فى إتقاننا للعبادات البدنية منها و المالية،ثم ينسى المرء دينه فيما وراء ذلك ، لا أتعجب أن  أرى أناسا من أشد الناس محافظة على الصلوات فى أوقاتها، يترك من أجلها عمله ربما ساعة كاملة ، و ربما كان صلى ما شاء الله من تطوع، و يصوم النوافل .. ثم ماذا إذا تراءت له الأهواء و المشتهيات نسى  أو تناسى دينه وورعه المغلوط .. و ما ذاك بالدين الحق ....
فسبح وصلّ وطف بمكة زائرا *** سبعين لا سبعا فلست بناسكِ
جهل الديانة من إذا عرضت له *** أطماعه لم يُلف بالمتماسكِ
إذا أردت أن تعرف حقيقة التدين فإليك ما كان عليه أصحاب محمد من التربية الحقة  الخالصة يقول الصحابى الجليل جندب بن عبد الله :
كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم و نحن فتيان حزاير(في قمة الفتوة)فتعلمنا الإيمان قبل القرآن ، ثم تعلمنا القرآن فازددنا إيماناً ، تلكم يا إخوانى هى التربية التى ننشدها أن تعمر القلوب بالإيمان أولا ،و أن نخرج حب الدنيا منها بعدأن  تملكها و استعبدها فصارت الشهوات و الملذات هى المحرك الأول للإنسان ... ليس مهما إن كان من حل أو حرام.
نعم هذا هو الإسلام الذى تربى عليه القوم فلا عجب أن تأتى امرأة لقائد الأمة طوعا ليطهرها من الزنا،  وهى  تعلم أن عقوبتها الرمى بالحجارة حتى الموت.. امرأة رسخ الإيمان فى قلبها ، ولا عيب أن نخطىء بل العجب أن نتمادى فى الخطأ..الدين فى أبهى صوره والذى زكى الضمائر و طهر النفوس الحرة، تلك التربية لا تستطيع أعتى القوانين الأرضية أن  تمتلك قلوب البشر كما تملكتها تربية النبى الكريم لهذه الأمة.
لما شرعت أمريكا قانون تحريم الخمر عام 1930 و بموجبه حرم بيع الخمور و شراؤها و صنعها و تصديرها و استيرادها ،و مهدت الحكومة للقانون بدعاية بمبلغ 65 مليون دولار، و كتبت تسعة آلالف مليون صفحة فى مضار الخمر، و أنفق ما يقرب من 10 ملايين دولار لأجل تنفيذ القانون، و قتل فى سبيل تنفيذه مئتا ألف نفس و حبس مليون شخص، و غرم المخالفون له غرامات بلغت 4 ملايين دولار و صودرت أموال بسبب مخالفته قدرت بمليار دولار ، ثم قاموا بإلغاء القانون فى أواخر عام 1933 لما يئسوا منه ، و كان يكفى الإيمان الذى تخالط بشاشته القلوب فتسارع بتركها لله تعالى. لما نزلت آية تحريم الخمر سارع الصحابة بسكب الخمور حتى امتلأت بها طرقات المدينة.
قال أنس : كانت الكؤوس تدار على رأس أبى طلحة و أبى عبيدة و أبى دجانة و سهيل بن بيضاء و معاذ بن جبل إذ سمعنا أن الخمر قد حرمت، يقول : فما دخل علينا داخل و ما خرج منا خارج حتى كان منا من اغتسل و منا من توضأ و أصبنا من طيب أم سليم ثم خرجنا إلى المسجد ، وفى رواية قلنا : انتهينا ربنا انتهينا أى لما سمعوا قول ربهم ( ياأيها الذين آمنوا إنما الخمر و الميسر و الأنصاب و الأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون)
نريد الدين الذى يحجز الإنسان عن معاصى الله لا التدين الأجوف الشكلى فقط و الباطن خرب.....
و ما حسن الجسوم لهم بزين * إذا لم يزن حسن الجسوم عقول
الدين الذى يحجز الحاكم و المحكوم أن يمدوا أعينهم أو أيديهم إلى مال المسلمين ،
قال عبد الله بن عمر اشتريت إبلا و ارتجعتها إلى الحمى( أرسلها إلى منطقة مخصصة للرعى) فلما سمنت قدمت بها،  فدخل عمر السوق فرأى إبلا سمانا فقال لمن هذه؟ قالوا لعبد الله بن عمر فجعل يقول : يا عبد الله بخ بخ ( كلمة تعجب) ابن أمير المؤمنين ، قال فجئته أسعى فقلت مالك يا أمير المؤمنين؟ قال : ما هذه الإبل فقلت : إبل هزيلة اشتريتها  وبعثت بها إلى الحمى أبتغى ما يبتغى المسلمون ، فقال عمر : ارعوا إبل ابن أمير المؤمنين .. اسقوا إبل ابن أمير المؤمنين ، يا عبد الله اغد على رأس مالك و اجعل باقيه فى بيت مال المسلمين.
نفوس سمى بها الإسلام و عرفت حقيقة التدين، بأنه سمو بالنفس و مكارم أخلاق تجعل صاحبها آية ربانية ونفحة طيب فى تعامله مع الناس، أو ليس نبينا يقول ( الدين المعاملة) ما أجمعها من كلمة و أحكمها من موعظة ، أرى اليوم آلافا ممن يحفظون القرآن و يحكمون تجويده و أحكامه و هم أبعد الناس عن تعاليمه و أسسه ، قال ابن مسعود : إنا صعب علينا حفظ ألفاظ القرآن،  و سهل علينا العمل به و إن من بعدنا  يسهل عليهم حفظ القرآن و يصعب عليهم العمل به . الفقه فى الدين لا يدركه إلا القليلون ، ومن أوتى فقها لم يؤت حسن الأسلوب فى الدعوة إلى الله بالحكمة و الموعظة الحسنة،أتعجب ممن يتصدر للدعوة إلى الله و ليس لديه من فقه الدعوة لا قليل و لا كثير و لا هو على دراية بنفسية من يخاطبهم.
وأرى الآلاف ممن يرتدين النقاب - و هو بين الوجوب و الاستحباب و إن كنت أميل إلى القول الذى يوجبه- أرى منهن من ختمت القرآن تظن نفسها بذلك قد بلغت الغاية التى ما بعدها غاية ،و إنما حفظها لحروفه و هى مضيعة لتعاليمه و حدوده، لم تفقه فى دينها حكما ، وربما جمعت بين صلاتين و هو من الكبائر و ربما كانت مدمنة للغيبةو النميمة  و هى لا تدرك أنها من عظائم الذنوب ، لا أقول إن هذه المظاهر ليست من الدين بل لا نملك إلا أن نسلم دائما لأوامر الله ورسوله ( يا أيها الذين آمنوا  ادخلوا فى السلم كافة )أى اتبعوا كل ما يأمركم به إسلامكم و لكن نريد تدينا ينأى بصاحبه عن محرمات الله و يضرب أروع الأمثلة فى التعامل مع عباد الله مسلمين و غير مسلمين ، أسأل الله تعالى أن يرد المسلمين إلى دينه ردا جميلا و أن يعلمنا ما ينفعنا و أن ينفعنا بما علمنا ، اللهم اهدنا و اهد بناو اجعلنا سببا لمن اهتدى.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

قصيده شباب الاسلام

إني تذكرت والذكرى مؤرقةٌ ..للشاعر الكبير : محمود غنيم

التدخين رحلة إلى الهلاك